يحفر ويحفر، ويقول ما حفرت... هو لا يدري عما يبحث... !اصطدم فأسه بجماجم بشرية قديمة.
دون تردّدٍ سألها أسئلة شائكة، قالت: لا تسألني أكثر. هنا... لم يعد لنا نهار... !
سأل التراب. رد عليه: أنت مني لكنك نسيت...
فوجئ بضربة ريح من اليسار، رأى شاهد قبر يحمل اسمه.
"مسار نحو المجهول: الحفر في ذاكرة الأرض ومواجهة الفناء"
ماذا لو أن كل ما نحفره في الحياة ليس بحثًا عن الكنوز أو الإجابات، بل عن حقيقة أنفسنا المدفونة في عمق الذاكرة؟ أيمكن أن يكون الحفر مجازًا عن رحلة الإنسان في مواجهة تاريخه الخاص، حتى وإن قادته تلك الرحلة إلى قبره الشخصي؟ وهل يستطيع المرء أن يواجه العلامة النهائية على مساره وهو لا يزال حيًّا؟
الفرحان بو عزة، القاص المغربي، عُرف بقدرته على تكثيف المعاني الكبرى في ومضات قصيرة، تنسج بين الواقع والرمز، وتمنح القارئ مساحات شاسعة للتأويل. تجربته في كتابة القصة القصيرة جدًا تقوم على اقتصاد اللغة وشدة الإيحاء، ما يجعل نصوصه أقرب إلى شذرات فلسفية تترك أثرًا أطول من حجمها.
في "مسار"، نتابع شخصية مجهولة الهوية تحفر الأرض بلا هدف واضح، تردّد أنها "ما حفرت"، وكأنها تنكر أو تبرّر فعلها أمام ذاتها. فجأة، يضرب فأسه جماجم بشرية قديمة، فيسألها أسئلة "شائكة"، لكنها تصده بعبارة حاسمة: "هنا... لم يعد لنا نهار". يتوجه إلى التراب بالسؤال، فيجيبه: "أنت مني لكنك نسيت". الريح التي تضربه من اليسار تكشف عن مفاجأته الأخيرة: شاهد قبر يحمل اسمه.
طريقة السرد هنا تعتمد على الإيجاز الكثيف وتوليد المعنى من خلال الحركة الرمزية: الحفر لا يمثل عملاً جسديًا بقدر ما يعكس رحلة بحث داخلية عن المعنى، والجماجم تجسد الماضي الجمعي أو ذاكرة الموتى التي لا تمنح أجوبة شافية. الحوار مع التراب يفتح بابًا للتأويل حول علاقة الإنسان بأصله المادي، بينما الريح وشاهد القبر يقدمان ذروة النص في لحظة انكشاف الحقيقة النهائية: المسار الذي يسير فيه منذ البداية كان يقوده إلى موته الخاص.
العنوان "مسار" يتسم بعمومية تسمح بتأويله على أكثر من مستوى: مسار الحياة الفردية، أو مسار التاريخ البشري، أو حتى المسار الحتمي نحو الفناء. المفارقة أن القارئ لا يدرك أن المسار مغلق على النهاية منذ البداية إلا عند ظهور شاهد القبر، ما يمنح القفلة قوة صادمة تعيد تشكيل قراءة النص بأكمله.
أما الرموز فهي حاضرة بكثافة: الحفر كاستبطان، الجماجم كتجسد للماضي والموت الجمعي، التراب كذاكرة كونية تحتفظ بأصل الإنسان، الريح كإشارة للتغير المفاجئ أو القضاء، وشاهد القبر كلحظة مواجهة الذات مع الحقيقة المطلقة.
القفلة في النص ليست مجرد نهاية بل هي لحظة وعي، حيث يتحول الحفر الذي كان يبدو بلا غاية إلى فعل يقود إلى الاكتشاف الصاعق: أن ما يبحث عنه لم يكن إلا موعده الأخير مع مصيره.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل كان البطل يعرف منذ البداية أن الحفر يقوده إلى قبره؟ أم أن النص يلمّح إلى أننا جميعًا نحفر، بوعي أو بدونه، في طريقنا نحو النهاية التي نحاول طوال حياتنا إنكارها؟
دائم يحمل تعليقك الرصين ونقدك العميق دعما وسندا اللذين يحفزاني لكي أستمر في التحليق نحو الأجود والأفضل من الكتابة .
شكرا لك أخي عباس على حضورك الدائم ومواكبتك حروفي بالتشجيع والمثابرة .
حفظك الله أخي ، تقديري واحترامي