إن في خلق السموات بارتفاعها واتساعها, والأرض بجبالها وسهولها وبحارها, وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر, والظلمة والنور, وتعاقبهما بأن يخلف كل منهما الآخر, وفي السفن الجارية في البحار, التي تحمل ما ينفع الناس, وما أنزل الله من السماء من ماء المطر, فأحيا به الأرض, فصارت مخضرَّة ذات بهجة بعد أن كانت يابسة لا نبات فيها, وما نشره الله فيها من كل ما دبَّ على وجه الأرض, وما أنعم به عليكم من تقليب الرياح وتوجيهها, والسحاب المسيَّر بين السماء والأرض -إن في كل الدلائل السابقة لآياتٍ على وحدانية الله, وجليل نعمه, لقوم يعقلون مواضع الحجج, ويفهمون أدلته سبحانه على وحدانيته, واستحقاقه وحده للعبادة.
ليس الخير عند الله- تعالى- في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله وشرعه, وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله وصدَّق به معبودًا وحدَه لا شريك له, وآمن بيوم البعث والجزاء, وبالملائكة جميعًا, وبالكتب المنزلة كافة, وبجميع النبيين من غير تفريق, وأعطى المال تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي القربى, واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ, والمساكين الذين أرهقهم الفقر, والمسافرين المحتاجين الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم, والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم, وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى, وأقام الصلاة, وأدى الزكاة المفروضة, والذين يوفون بالعهود, ومن صبر في حال فقره ومرضه, وفي شدة القتال. أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم, وأولئك هم الذين اتقَوا عقاب الله فتجنبوا معاصيه.
يقول ابن عثيمين أن هذا الذي يغتاب عباد الله أكبر همه في المجالس أن يعترض ويعرض عيوب الناس وُكل بنشر هذه المعايب وتتبع عورات المسلمين ، وليعلم هذا المسكين أن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته ، وليعلم أن من تسلط على نشر عيوب الناس وتتبع عوراتهم والافتــــراء عليهم سلط الله عليه من ينشر عيوبه ويتتبع عورته ، وهذا القائل الذي ينشر عيوب الناس لو فتش في نفسه لوجد نفسه اكثر الناس عيوبا وأسوأهم أخلاقا وأضعفهم أمانة.
ولو لم يكن من عيوبه إلا تسليط لسانه على عباد الله لكان كافيا ، إن المسلط على عباد الله لمشؤوم على نفسه مشؤوم على جلسائه .
أما كونه مشؤوما على نفسه فإنه قادها إلى الشر والبغي ، وأما كونه مشؤوم على جلسائه فلأن جلسائه إذا لم ينهوه عن فعله صاروا شركاء له في الإثم .
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " مر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم"
فقال: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ".
وأكثر الناس اليوم يقولون في إخوانهم ما لا يعلمون لو سألته فقلت له أتشهد عليه بما قلت لقال : لا أشهد ، ومن المعلوم أنه سوف يسأل عن ذلك يوم القيامة ،أفلا يتقي الله هذا ، أفلا يعلم أنه ما يلفظ من قول لا لديه رقيب عتيد ،أفلا يعلم أنه يحاسب عن كل كلمة قالها .
اعتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، فنادى بصوت رفيع فقال : ( يا معشر من قد أسلم بلسانه ، ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ) .
وقال رسول الله: ( إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار! ) صحيح مسلم (2581)
يقول جل من قائل عليما: " ومايستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور" صدق الله العظيم سورة فاطر رقم الآية 22
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في كتابه تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: السمع هنا، سماع فهم وقبول، لأن الله تعالى هو الهادي وهو الموفق" وما أنت بمسمع من في القبور" أي أموات القلوب، أو: كما أن دعاءك لايفيد سكان القبور شيئاً
كذلك لايفيد المعرض المعاند شيئاً، ولكن وظيفتك، النذارة والإبلاغ وما أرسلت به، قبل أم لا..
مع فائق الشكر والتقدير للأستاذة : إنتصار دوليب صاحبت المبادرة.
(أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) [الحجرات: 12]
هذا المثال يكفي مجرد تصوره في الدلالة على حجم الكارثة التي يقع فيها المغتاب، ولذا كان عقابه في الآخرة من جنس ذنبه في الدنيا، فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ليلة عرج به ـ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: فقلت: "من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" والأحاديث في ذم الغيبة والتنفير منها كثيرة.
وأسبابها الباعثة عليها كثيرة منها: الحسد، واحتقار المغتاب، والسخرية منه، ومجاراة رفقاء السوء، وأن يذكره بنقص ليظهر كمال نفسه ورفعتها، وربما ساقها مظهراً الشفقة والرحمة، وربما حمله عليها إظهار الغضب لله فيما يَدَّعي.. إلى غير ذلك من الأسباب.
وأما علاجها فله طريقان: طريق مجمل، وطريق مفصل كما ذكر الغزالي فالأول:
أن يتذكر قبح هذه المعصية، وما مثل الله به لأهلها، بأن مثلهم مثل آكلي لحوم البشر، وأنه يُعرِّض حسناته إلى أن تسلب منه بالوقوع في أعراض الآخرين، فإنه تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرضه، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك.
أما طريق علاجها على التفصيل: فينظر إلى حال نفسه، ويتأمل السبب الباعث له على الغيبة فيقطعه، فإن علاج كل علةٍ بقطع سببها.
فإن وقع العبد في هذا الذنب فليرجع إلى الله سبحانه وليتب إليه، وليبدأ فليتحلل ممن اغتابه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" متفق عليه من حديث أبي هريرة.