النص : قادمون .. يا نينوى
الناص : عباس باني المالكي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
النص :
قادمون .. يا نينوى
ما كانت الحافات المضيئة
سوى جناحي النسر الذي هوى وحيدا
ليعيد العدم من زمن الرماد
ينثر الأسماء المحفورة فوق الأضرحة
لتحرق بغداد أثوابها المفخخة بالنار
تحمل طعم الوطن الذابل من أعراف
قبائل قريش ... في رحلة الشتاء والصيف
الدرب لم يعد سالك للشام والعراق
هولاء المنقرضون لم يغادروا أثواب الأصنام
دولة الرب...؟؟؟؟
وحكايات تاريخنا شاخت في
مدننا تقتل فيها الشوارع بدم أرصفة الله
ما عاد الليل رحم النهار
كي يعود متفردا بالضوء...
وهناك نينوس يحمل سيف صدأ السنين
وسمير أميس تسبى عند أكتمال شبق القمر
في قوانين القبيلة ...
مشيمة السماء تسبح فوق تيجان النخيل
الذي ظل يرضع من تمره
حين جفت خلايا الماء في الوطن
هي الأماني تسرح بذاكرة أقفال الجفون
في زمن أغمض عينية على حضور الخليفة
لتأتي دولة الأسلام ..
وأبرهة مازال يحشد تاريخ البحر على أبواب قريش
ليأتي بأوثان الفيلة ..
السبايا لا يأتيهن الأمل عند أبواب سنجار
وفحل الظلمة نام في عيون أمراء الرقاب
هل نام حراس الرب على أبواب الخرافة
والموت المر في بطن حوت العراق والشام ؟؟؟
لكن حراس الوطن .. قادمون يا نينوى
القراءة
ـــــــــــــــــــــــ
قادمون ....يا نينوى
عنوان يأخذنا للأمل ونحن في طريقنا لنينوى...لاحتضانها ..لغسلها من براثن الألم..
لتحريرها من أنياب الغدر..لنزع الصراع المذهبي من عيونها...
الكاتب هنا اختار الحديث عن مديتة نينوى العراقية ليس عبثا... جعل قبلة الرؤيا نحو نينوى لقيمتها الجغرافية والأثرية وعلى اسم العمليات التي تقاوم الفئات الباغية الإرهابية " عمليات" قادمون يا نينوى"...هي مدينة ساحرة غاية في الجمال وآية على الأرض..وقد وقعت تحت سيطرة الجهات الإرهابية يقطعون بها من كل الجهات ويمزقونها تحت إسم الدين...
الكاتب يتحدث عن بلاده بأوصاف سحرية وألفاظ منتقاة تحمل الرمز بين ثناياها بين تاريخها القديم وأسطورة نينوس وسمير أميس..وبين أحداث اليوم ولمحات من الجاهلية التي جسدها في دم قريش وتلك القبائل التي كانت تعادي نور الإسلام كجاهلية اليوم والفرق والمذاهب التي انتشرت تقاتل باسم الدين وهو بريء من أفعالهم الجاهلية البحتة..
الصور في هذه اللوحة أخذت بعدا عميقا وشرحت الواقع بدقة وجسدت الربط التاريخي الذي لم ينفك عن واقع اليوم..وجاءت بثوب أبي لهب لتعيد صنمية الأشخاص التي تدور في دائرة الإرهاب والفساد وتعيد الأصنام وعبادتها في الشخصيات الحاكمة اليوم..وما أشبه الماضي باليوم..وما أشبه جاهلية قريش بجاهلية اليوم بل هي اليوم أشد...
وهذا ما جسده الكاتب بدقة ووصف بليغ بقوله:
" هولاء المنقرضون لم يغادروا أثواب الأصنام دولة الرب...؟؟؟؟
وما أكثر الصنمية اليوم وهي ترتدي أثواب الحكم والقيادة..
هنا الصورة فيها سحر مركب البناء متين الأعماق بتراكيب إبداعية ..قل ما نجد نظيرا لها...الصورة الواحدة جاءت على شكل وصف التورية..
التورية هنا كانت الإتيان بِلفظٍ له معنيان ..معنى قَريبٌ ظاهر غير مقصود...ومتنىً بعيد خفِيٌّ هو المقصود..
فقد اشتق من تركيبة البناء معنين:
1..منقرضون..بمعنى منقطع.. أي لم يعد له وجود..إلتغى وجودهم وانقرضت هيئاتهم وأجسادهم..وهو معنى ظاهر غير مقصود..لكنه يستدرج المعنى الخفي..
2..لم يغادروا أثواب الأصنام دولة الرب...هو المعنى البعيد الخفي وهو المقصود...
بمعنى الأفعال والسلوكيات والفكر والسياسة والحراك العام ما زالت تمارس مع فئات الساسة والقادة وولاة الأمر...
صورة سحرية فاتنة في اندماج تراكيبها اللغوية مع تلك المثيرات الخيالية والأبعاد التي تتلاءم مع الحدث بانسجام العمق الذي يتصادم مع أنياب الواقع..
فالواقع ما كان إلا محركا أساسيا مع تصاعد الأزمة التي أثرت في ذات الكاتب ولغته الإبداعية...
فما كان هنا إلا عملية تجسيد متقن لصور الواقع المؤلم بفكر ناضج ووعي متدارك لسياسة المجتمع وتعريته وألاعيبها التي يملكها الكبار من طواغيت هذا العصر وجبابرة الظلم..وجاءت متوافقة مع لغة السبك المتين والخيال المشبع بطاقة ذهنية عالية النسج قوية النقش على صفحات الأدب الراقي..عدا عن الرموز التي تحمل الأبعاد التي امتصت لفات الظلم من ذهن هؤلاء الذين يمسكون زمام الأمور بأيديهم...
وبطبيعة الحال كان يعتبر نقدا لاذعا خفيا في تجاويف هذه الصور الإبداعية الراقية...
......
ومن آثار هذه الصنمية التي يمارسونها في كل طبقات المجتمع ...وبين بنائه المتزعزع..تحويل الأمن والعيش الرغيد في البلاد لحالة حصار دامي مقلق مهزوز غابت عنه معالم الحرية والعدل والمساواة.. وخرجت من دائرة المنهاج الرباني ليضفي عليه ستائر الظلام والوحشية التي أبادت الإنسانية من قلوبها لتتفنن في أنواع القتل والهدم والتشريد...
قيدها اقتصاديا وشل حركتها من جميع الإتجاهات..وسد طرق التجارة التي أشار إليها الكاتب بقوله:
قبائل قريش ... في رحلة الشتاء والصيف
الدرب لم يعد سالك للشام والعراق
قبائل قريش لم تتركنا يوما..بل طالت أظفارها وامتدت أنيابها بوحشية أكثر..لأننا دعمنا وثنيتها بترك عبادة الله بحق ولم نقترب سلوكيا وعملا بشريعة الله....
....وهذا ما قصده الكاتب في لوحته الفنية الباذخة المتينة بقوله:
وحكايات تاريخنا شاخت في
مدننا تقتل فيها الشوارع بدم أرصفة الله
ما عاد الليل رحم النهار
كي يعود متفردا بالضوء...
الصور هنا فظيعة جدا في قوة بنيتها الفنية اللغوية والتي تدل على قدرة هذا الكاتب
وحرفيته في انتقاءه لألفاظه التي تنسجم مع لغة الواقع ورمزيته التي تحمل للواقع دلالات متقنة السبك تشير لنقد أوضاع هذه الأمة النازفة..ورموز تحمل في طياتها عمق الألم ومدى الظلم الذي يقبع بين فلك الصنمية من جميع الجهات...
عملية تصوير التاريخ بالشيخوخة هي عملية تحريك لألفاظ اللغة وفق تدفق الخيال الخصب والحس الذهني بترابط متين السبك
يتلاءم متقن يدل على براعة الكاتب وفنيته وحرفيته القديرة في تطويع الحرف ببن أنامل قلمه المبدع...
وحكايات تاريخنا شاخت في
مدننا تقتل فيها الشوارع بدم أرصفة الله
ما عاد الليل رحم النهار
كي يعود متفردا بالضوء...
أوصاف حاكت الحدث وفق سلسلة تضاريس هذه الحرب ووفق هذا الفكر العميق ..
مما فتح آفاق الفكر ليسبح بين مسامات الخيال وينسج تحليلات ووفق الدلالات التي تسقط على واقع مرير مؤلم...
يا لجمال هذا الوصف الذي يأسر العقول والقلوب والذائقة في وصف الأحزاب التي تحمل الدين ذريعة وغطاء لارتكاب أبشع الجرائم التي لا تمت للإسلام بصلة...
ففي قوله:
ما عاد الليل رحم النهار
كي يعود متفردا بالضوء..
كناية عن الدكتاتورية والظلم الذي يمارسه الإنسان ضد طبيعته النقية..
لا يتركه يمارس حريته ولا يعطيه الفرصة في ممارسة حياته الطبيعية وحقه الحر..
صور تسلب العقول والألباب بجماليتها العذبة الفذة..من خلال اقتناص اللوحة الكونية من الليل والنهار وتوظيهما وفق عناصر النص لتوميء بهدف الكاتب وتحقق أبعاد المعنى الإشاري لتصل لروح المتلقي وفق منظومة سلسلة عميقة البحث مع جذور الخيال الواعي المتدارك والواقع الأليم النازف...
يكمل الكاتب خريدته اللامعة اللاذعة لصور الواقع المؤلم..بقوله:
وهناك نينوس يحمل سيف صدأ السنين
وسمير أميس تسبى عند أكتمال شبق القمر
في قوانين القبيلة ...
مشيمة السماء تسبح فوق تيجان النخيل
الذي ظل يرضع من تمره
حين جفت خلايا الماء في الوطن
هي الأماني تسرح بذاكرة أقفال الجفون
في زمن أغمض عينية على حضور الخليفة
لتأتي دولة الأسلام ..
وأبرهة مازال يحشد تاريخ البحر على أبواب قريش
ليأتي بأوثان الفيلة ..
تتميز هذه الصور هنا في قيمتها الجمالية وتوظيف الأسطورة لخدمة الكاتب في توصيل الفكرة المركزية التي تتلاءم مع أرضية الواقع المرير...
من خلال هذه الأسطورة التي تتحدث عن سمير أميس...لتردع الأفكار النائمة والعقول المشتتة للصحوة ودراسة التاريخ بطريقة صحيحة لا تشوبها الزيف والخداع..
" منذ اكثر من الفي عام..كانت ملكة عراقية.. تشتهر بالجمال والقوة والحكمة..وبقدرتها الفائقة على ادارة الدولة وقيادة الحروب والتوسع بالفتوحات وروح الاصلاح والتعمير. تنسب لها الاساطير بانها هي التي شيدت بابل بحدائقها المعلقة .. وانشأت العديد من المدن وغزت مصر و جزءا كبيرا من آسيا والحبشة، وحاربت الميديين.. واخيرا قادت هجوما غير ناجح على الهند.. كاد يؤدي بحياتها.."
لمجرد هذه اللفتة الذهنية الحكيمة من الكاتب ..والحث على عملية البحث والتنقيب عن هذه الأسطورة..يدل على الوعي الكبير للتخبطات التي تسري في المفاهيم والشرود من عمليات البناء الإجتماعي والحضاري..والهروب من بؤرة التاريخ العريق الذي يكتنز بين جدران العراق الأم الشامخ...
وجعل الكاتب من هذه القصة إعادة تأويل لبناء أجيال اختمرت من حضارة بلادهم العريقة لتنجب قادة من ينبوع الحكمة ونهر العبر والموعظة...
وللتوقف عند حدود الخلافة لتكون وفق منهاج السماء...
ويكمل الكاتب صوره السحرية التي اندمجت مع بؤرة الحدث وخلجات النفس ليرسم لنا لوحة فنية بديعة على أرض العراق تشمل كل نواحي الأمة..
ويمسح عن عيونها غبار التبعية وهو يقلم أظفار الظلم ليبعث في النفوس بعض الأمل...ففي قوله:
مشيمة السماء تسبح فوق تيجان النخيل
الذي ظل يرضع من تمره
حين جفت خلايا الماء في الوطن
هي الأماني تسرح بذاكرة أقفال الجفون
في زمن أغمض عينية على حضور الخليفة
لتأتي دولة الأسلام ..
نرى هنا مسحة نورانية ونفحات مضيئة ..من خلال الرمز الذي يثبه الكاتب في عيون دولة الإسلام الذين وأدوا حضورها ببتر الأماني لإعادة الخلافة الإسلامية التي تحقق فيها الأمن والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
صور بارعة النسج من رموز الطبيعة في النخيل والماء ...يستخدمها الكاتب ليمنح للنتلقي البحث والتنقيب عن عنق المعاني وعمقها الكبير.،ليكشف الأسرار التي يعتمدها في النص...
وهذا نوع من أنواع الإيداع المنتقى الراقي...
ويختم الكاتب لوحته الراقية ..بطريقة ذكية بارعة ..جعلت الدهشة حصاد النص البليغ..يقول:
السبايا لا يأتيهن الأمل عند أبواب سنجار
وفحل الظلمة نام في عيون أمراء الرقاب
هل نام حراس الرب على أبواب الخرافة
والموت المر في بطن حوت العراق والشام ؟؟؟
لكن حراس الوطن .. قادمون يا نينوى
كيف يصور الكاتب هذه اللوحة وفق رؤيته الفكرية العميقة ..التي تتماشى مع مدى عمق لغته العذبة..لتعرية الواقع برموز عميقة إسقاطا على واقع ما زال ينزف لم تجف دمعته...تنطوي بين طياتها الأبعاد المؤلمة التي تشير لمرارة الواقع الدامي...
كيف رمز للسبايا وانقطاع الأمل ..والموت المر الذي ابتلعه الحوت من ضحايا العراق والشام...اطلق عليه الكاتب بإسم..حوت العراق والشام...المأخوذة من قصة سيدنا يونس عليه السلام ..الذي ابتلعه الحوت ..والذي أطلق عليه حوت يونس...
........
قفلة سحرية تدل على هذا الفكر العملاق الذي يتلاعب بأنامل قلمه وفق محركات اللغة وقواعدها وألفاظها ومفرداتها بمزيج من الخيال والمشاعر اليقظة..
التي أحدثت في نفس المتلقي تفاعلا وانسجاما من أولها لآخر كلمة فيها...
وهذه هي الحرفية والفنية المميزة المبهرة...
الأستاذ الكبير والشاعر المبدع القدير
أ.عباس باني المالكي الراقي
سررت وأنا في طوافي حول قلمكم المميز المبدع
الذي قدم لنا لوحة إبداعية ليست ككل اللوحات..
إذ تتميز باشتمالها على كل عناصر الإبداع والتصوير الفني الراقي..
وجذب فكر المتلقي وتجنيد خياله وفق صور تجسدت من ملكة التصوير التي تتميزون بها..والتشابيه التي حوت قوة الألفاظ والبلاغة والفصاحة..ما يفتح الآفاق في التخيل والسبح في أعماق الفكر...
شكرا لكم وبورك بمدادكم
ووفقكم الله لنوره ورضاه..وأكرمكم بتقاه وهداه
.
.
.
.
جهاد بدران
فلسطينية