أعتقد أن الحرية كمفهوم لم يحسم فيه لحد الآن بالدقة التي نتخيلها ، وما كثرة الحديث عنها من قبل كتاب ومفكرين وفلاسفة إلا دليل على اتساع مفهومها وعلى زئبقيته في آن واحد ، فالحرية لغويا يمكن أن نقول عنها بأنها تعني انعدام القيود .لكن أية قيود نعني ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد لنا نوع الحرية التي نتحدث عنها ،فهناك قيود متعددة ،قيود غريزية وسياسية واجتماعية وإقتصادية ..الخ....، فكل قيد من هذه القيود إذا انعدم نمارس تحته حرية ما ، فمثلا هناك حرية سياسية ،تتمثل في ممارسة السياسة بشكل علني إن على المستوى الفردي أو داخل تنظيم سياسي معين بدون قيود أو معيقات مضادة من الدولة أو من جهة من الجهات ، وهناك حرية اجتماعية تتمثل في ممارسة سلوك معين ولو كان مخالفا للسائد والمتعارف عليه ،وهناك الحرية الدينية وتعني اختيار الفرد للمعتقد الديني الذي يريده أو يبقى بدون اختيار ،وهناك حرية نقابية تتمثل في القيام بالإضراب وتقديم الملفات المطلبية للعمال والمستخدمين والموظفين إلى المعنيين بالأمر دون خوف أو تعرض للقمع ...الخ...فممارسة حرية من نوع ما يقتضي غياب العراقيل والقيود التي تكبحها أو تحد من ممارستها ، بيد أن هناك من الفلاسفة - أفلاطون مثلا-من أنكر وجود الحرية كواقع، ولعل من أقواله التي نحفظها منذ أيام الدراسة قولته:"إننا لا نعي الحرية عندما نقع تحت وطأة الرغبات"، فالإنسان رضي أم أبى هو محكوم برغباته حتى عندما يرغب في أن لا برغب ، ومحكوم بغرائزه وما تمليه عليه هذه الغرائز ،كغريزة البقاء وغريزة الجوع...بينما هناك من ذهب إلى أن الحرية هي مجرد شعور فقط -أظن أن من ذهب إلى هذا الرأي هو الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا-فالحرية عنده ليست موجودة على مستوى الواقع وإنما يمكن الشعور بها أو-إذا لم يخني التعبير - يمكن تخيلها فقط.
وهكذا يبقى مفهوم الحرية غير قابل للحسم فيه ،بمعنى أنه لحد الآن ليس هناك إجماع على مفهوم واحد لها.
وكما قلت آنفا فإن بعض المفكرين والفلاسفة يذهبون إلى أن الحرية هي كلمة مجردة يمكن أن نتحدث عنها لكن لا يمكن أن نعيشها في الواقع ، فهل بمقدور العقل أن يثبت الحرية بالبرهنة عليها؟
أعتقد أن هناك بعض الأمور تنبغي مراعاتها عندما نريد أن نثبت الحرية كوجود وكواقع، من هذه الأمور :
1-الحتمية:وهي تعني أن لكل فعل شرط سابق عليه نتج عنه ،فالمرض لا يوجد إلا إذا وجد سببه ،فالطاعون - مثلا - لا يحدث إلا إذا وجدت الجرثومة التي تحملها الفئران والتي تسببه، وكذلك كل فعل يصدر عن الإنسان هو بسبب سابق،فأفعال الإنسان من هذا المنظور محكومة بقوانين وشروط متقدمة عليها.
2-الجبرية:ترى الجبرية أن أفعال الإنسان خاضعة لإرادة الله عز وجل ،فما يقوم به المرء من أفعال هو بمشيئة الله تعالى ، وأن ما يقع له من حوادث هو قدر ومكتوب يستحيل الهروب منه.
3-الضرورة:تشير الضرورة إلى أن كل ما في الكون ومن ضمن ذلك الإنسان لا يمكن أن يخرج عن طبيعته التي خلقه الله عليها ،فطبيعته من عواطف وغرائز متحكمة في سلوكه.والذي يتبنى هذا الرأي يكون إما جبريا وإما حتميا أي يؤمن بالحتمية.
من خلال ما سردناه أعلاه نرى أن الحرية تشكل بالفعل مشكلا اوإشكالية إن صح التعبير ، وهي بالفعل إشكالية شغلت الفلاسفة والمفكرين على مر العصور ما بين مثبت لها وناف ، ومن بين الذين أثبتوا الحرية في العصر الحديث هناك الفيلسوف الفرنسي ديكارت صاحب مذهب الشك وجون بول سارتر ذو المذهب الوجودي ووليم جيمس الفيلسوف الأمريكي ذو المذهب الذرائعي أو النفعي وأيضا برغسون الفيلسوق الفرنسي.
إن الحديث عن الحرية يبدو مغريا لأننا نشعر بالحاجة الماسة إليها في كل لحظة وحين ، ولأن الحياة بدونها لا تطاق ، ومن هنا كان تعظيم الشهداء الذين يموتون في سبيلها ، ومن هنا أيضا كان استرخاص النفس والمال في سبيل الحصول عليها ،وأنا هنا لا أعني الحرية بالمعنى الفلسفي ،بل بالمعنى السياسي والإجتماعي.
لقد أكد أحد الفلاسفة:"أن الحرية لا تمارس إلا بالعقل "ومعناه أن التفكير في الحرية لإعطائها وجودا محسوسا هو قتل للحرية ، فبقدر ما نفكر فيها بقدر ما نجد أنفسنا محاطين بصنوف متعددة من القيود كلها تنبئ بأن الإنسان هو واهم فقط حينما يعتبر نفسه حرا.
ويرى بعض المفكرين - منهم ماركس ولينين - أن الحرية إنما هي عملية تحرر مستمر ، والمقصود هنا بالتحرر هو عملية التخلص الدؤوبة من جميع العراقيل والعقبات الكأداء التي تقف في وجه الإنسان ، وهي العراقيل التي تجعل منه إنسانا مستلبا ، وأكبر هذه العراقيل هو الإستلاب أو الإنخلاع الإقتصادي المتثل في وجود الملكية الخاصة، فالعامل الإقتصادي يشكل المبتدأ والخبر في النظرية الماركسية ، وفي الفلسفة التي تشكلت على ضوئها.
في الفلسفة الوجودية الإنسان لا بد أن يمارس حريته ، ذلك"أن الإنسان محكوم عليه بالحرية" كما يقول سارتر ،فهو قد قذف به إلى العالم دون رحمة أو رأفة ، ولذا فلا مناص له من أن يختار مصيره الذي يريد ، بيد أن الحرية في النظرية الوجودية هي التزام ، وهي مسؤولية ، فلكي أكون حرا ينبغي أن أكون ملتزما ، ومن هنا جاءت جاءت فكرة الإلتزام في الأدب التي طرحها سارتر في كتابه الشهير:"ما الأدب ؟" ،والإلتزام هنا لا يعني الإلزام المنافي للحرية.
في الختام أريد أن أطرح مشكل الحرية فلسفيا ،وبما أن السؤال في الفلسفة أهم من الجواب سأطرحه على شكل أسئلة:
- هل الحرية موجودة وجودا ملموسا؟ الإنسان يشعر بأنه حر ولكن مامدى صمود هذا الشعور بالحرية أمام الجبرية والحتمية والضرورة؟
-هل الحرية هي حالة شعورية فقط أم هي عملية تحرر مستمرة؟
الحرية فكرة ونظام ومجموعة قوانين ندسترها ونسير وفقها كأسس وقواعد
الحرية فكرة والفكرة شعور نلمسه حين نطبقه كفعل ميداني في شتى المجالات
كأن أتخذ قرارا من تلقاء عقلي بعيدا عن أي ضغوط وتأثيرات خارجية ثم أنفّذه فيصبح ملموسا وواقعيا
لسنا أحرارا بشكل مطلق فنحن محكومون بظروف فُرضت علينا كمخلوقات
ولا يحقّ لنا التحكّم الكلّي بالأمور، لا سيما الحتمية منها والتي تحدّدها الأقدار وتوجّهها الذرائع
الحرية رأي يفرضه الضمير وانعتاق تباركه الإرادة داخل أطر فطرية سليمة
ولن أسميها قيودا بل اتساقا يمجّد الإنسان ويمنحه حق الاختيار والعيش بسلام
إضاءة قيّمة تحفّز الهمم وتصوّب الخطى
وكما عادة نصوصكم الثمينة وأفكاركم الواعية
وفّقكم الله لنوره ورضاه
كلما كانت أمام المرء الحواجز والعوائق يريد المرء أن يتخطاها تجعله يبذل جهداً لتحقيق ذلك
هي ممارسة يومية على المستوى النفسي والاجتماعي
يقول سارتر " أنا الذي أصنع الخير وأقرر الشر " فمادام للإنسان عقل فهو يستطيع التمييز بين الخير والشر ومادام يستطيع التمييز بمحض إرادته فهو حر".
الحرية ليست فوضى بل يجب توفر الوعي الدقيق أي بمعنى الحرية ومعرفة حدودها لذلك قيل "تنتهي حرية الإنسان حينما تصل إلى حرية الغير" .
الحرية بين الشعور والممارسة مشكلة لا يزال بابها مفتوح
أن الحرية مسألة فلسفية
فالحرية شعور والحرية ممارسة تنطلق من الوعي والشعور وتتجلى في الممارسة وفق أسس معينة.