قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
بقلم فاكية صباحي
النص
نم يا صغيري لا تذع أثرا *** الدرب أسرج بالخطى خطرا
نم يا صغيري ضم ضحكتنا *** خوفا تصيخ ذئابهم بشرا
قد توقد الدمعات ليلتنا *** خلِّ العيون تكبل المطرا
جفت ضلوعي وانطفا لبني *** فارضع أجاج البحر والسفرا
أنهار صدري حزّها وطن *** لم يشبع الذبـّاح ما همرا
لا تكسر الحلمات..جمرتها *** قدَّتْ قميصا درّ وانتظرا
مُرُّ الطريقِ الآن يفطمنا *** هاك اشرب الصبرَ الذي انتحرا
قمْ هَدْهِد الغَمَرات غضبَتها *** هَزْهِزْ ليغفو الموجُ إن هدرا
بحرٌ رأى أحلامَنا قَفَلتْ *** فأسى على طرقاتها وجرى
اتركْ شظايا الخوف دميتها *** لعبُ وراء البحرِ قد نُشِرا
ولأيِّ منأى عن جرائمهم *** يكفي رغيفا لم يَرِدْ سقرا
صنعوا على حدِّ المـُدى وطنا *** فالبينُ عرشٌ بالدما استعرا
نم يا غدا للحلم منطفئا *** سكب الدروبَ وأزهَقَ الثمرا
دعني أقبـّل كفَّ مُنكفئ *** فوق البحور يعاند القمرا
كفٌّ كأنّ الله أعتَقَه *** من كلِّ إثـْمٍ ضلَّ فازدهرا
فغفا وما طرقاتها وصلتْ *** وعمى البحور حذاؤه مَخرا
فعلى الشواطئ حضن غربته *** جنحتْ فمال الرمل حين سرى
ولقابِ قوسينٍ الى عدنٍ *** حلموا ببعض رياضها الخضرا
فزعوا الى أبواب أفئدةٍ *** ليست حكومة دينها "قَطَرا"
ليست تبيح الموتَ مستعرا *** فتؤلـِّبُ الحجّاجَ والشَمِرا
وعلى حدود بيوتهم ملكٌ *** يهبُ الفناءَ وهولَه سَمَرا
يفتي ببيت الله أعورُهمْ *** انَّ الفرات ودجلة كَفَرا
يهدي الينا حِبـْر أمـّتِنا *** في كلِّ عيدٍ ميتةً شَذَرا
لا يمنحون لجوءَ مَنْ قُتِلوا *** ولقاتل الأطفال مدَّخَرا
ويذبّحون كأن قاتلهم *** دَرَسَ البيوتَ وأهلَها ضجَرا
هي أمّةٌ رَكَنَتْ الى عَدَمٍ *** فتلفـّها نيرانُها زُمَرا
حلّق الى علياء جنـّتكم *** واترك مسوخا تنفث الشَرَرا
فعلى القسيِّ الآن مَبْسمكم *** في غزّة والشام قد نُحِرا
مِصْرُ العروبة أُثْخِنَتْ حَسَدا *** تلك المَخاتِل للرماد عُرى
فيها رجالٌ أسرجوا زمنا *** عبروا به النَكَبات والكَدَرا
يتقاسمون رغيفَهم وَطـَنا *** شمسا فكان جميعهم فَخَرا
حملوا صغار قلوبهم حَدَقا *** فحَبوا على أجفانهم نَظَرا
من كل طيب أغدقوا هَرَما *** والنيلُ يرسم فجرُه العُصُرا
اترك صغيري دعْمَ اخوتنا *** والدين والبـِرّ الذي ابْتُكِرا
ودِّع زمانا ما به شرفٌ *** فالشمسُ كِذْبٌ والدماءُ ثـَرى
لا تـَلـْتفِتْ إرْجِعْ مَدامِعِهم *** ألقِمْ عَويلَ نِفاقِهم حَجَرا
علّق حذاءَك في شواربهم *** حتى يثوبوا خَلقَهم حَشَرا
بَحَثَتْ شُموعُ الماءِ عن شُعَلٍ *** تَقـِدَ البُخورَ وتَعْقِدُ النُذُرا
لمّـا تجدْ وَحْيا يُعبّرُهم *** لَجَأتْ لكهفِ الماءِ فانكسرا
فشِباكُ هَوْلٍ شـَدَّهُ فـَزَعٌ *** قـَمَطَ الرضيعَ وصَمْتَهُ العَسِرا
يا معبدا للحالمين أفِقْ *** رتـّل طقوسَ الماءِ ما أسرا
قدِّمْ قرابينا مُبـَرَّأةً *** ومِنَ النِضارِ لتـَلْبَسَ السَحَرا
والى البراعم رُدَّ أفئدةً *** كيْ ينزل الوحي الذي هَجَرا
أطرِقْ فَمـاً أبوابَه قـُفِلـَتْ *** بفمٍ قتيلٍ يحملُ الخَبَرا
حَمَلَتْ شـِباكُ الماءِ آيتَهُ *** وعلى الشواطئ ألقَتْ السُوَرا
يغفو على سَكَراتِ أجنحةٍ *** لا تُوقِظ الصبح الذي احتَضَرا
سَرْبُ الضحايا صوب قاتِله *** يسعى وفـَخُّ الغَدْرِ قد نَطَرا
حجّوا الى أنصاب محْرَقةٍ *** فالشعبُ يهوي كلّما حصرا
إرحلْ فما صَلَواتُنا قَصَمتْ *** لَعَناتهم ما زَحْزَحتْ حجرا
غادِرْ بلادَ العربِ، شرْعتها *** تفتي بقتلِ الماء فاندثرا
مطرت حزاما ناسفا فسقتْ *** كُفـْرَ العُروشِ الحُمْرِ فانفجرا
هذا العراق مشيّعٌ زمنا *** يُبْكي القبور ويمسح الأثرا
يا مُتـْربا هذا دمٌ عـَفـِرٌ *** عـَدَنٌ تـُعَبـِّئ نـَزْفَهُ النَعـِرا
يا راحلا فَمـِنَ الجَنوبِ أتى *** سرْبٌ يجرُّ الأرضَ والشَجَرا
سمر وفي طَرْفٍ به حَوَرٌ *** في موسم الأنقاض قدْ غبرا
ولكل كسر في أضالعهم *** يمنٌ من التعساء قد زفرا
في كلِّ رُكْنٍ ضَمـَّهُ لعبٌ *** عِطـْرٌ مِنَ الأطفالِ قد نُثـِرا
جاسوا الى أحلام منزلهم *** سحقوا على أشلائه فذرا
طبعوا على شهقاتهم قدما *** تلقي الحروب فأشبعوا الحفرا
ليل تعرى غاصبا سبأ *** فأتى الردى بلقيسهم حَسِرا
حرقوا المهود الخضر فالتحمت *** صرخاتهم بالموت فاعتذرا
ركضتْ على شَهَقاتِهم لعب *** تعمي الحروبَ لتفضحَ البَصَرا
هول العراق ملاحمٌ عَجَبٌ *** لا تشبه الطوفان والهذرا
حزنٌ نمى في جوفِهِ وطنٌ *** ينمو سَعيرُ ترابِه بشرا
فالطفل يركض عمره غضبا *** نحو المنايا كلـّما كبرا
هم كلـّما يَرْدون قنبلةً *** تـَقِفُ الحقيقةُ منطقا عَسِرا
بل كلـّما يبكون أغنيةً *** يتبرْعَمُ العشقُ الذي اعتصرا
في عبوةِ الغدرِ التي قـُتِلوا *** يتعانقون ليصرعوا القـَدَرا
في كلِّ دَرْبٍ صُلْبُ مِئذنةٍ *** لكنّ وَحْيا كاذبا كَفَرا
وَشـْمُ الشظايا في خوافقنا *** نَبـْضٌ على ضَحَكاتِنا ابْتُكِرا
كُسِرتْ ضُلوعُ قبورنا كَمَدا *** تَرِد الجسوم قدائدا مذَرا
.......
أول ما يلفت الانتباه في هذا النص براعة توظيف التراث بعد ما ناءت الأزمة الراهنة بكلكلها على الصدر العربي لتظهر لنا جليا قوة المواجهة بين الأنا والآخر
فعنترة بن شداد لم يرد ذكره في النص ..ولكن الشاعر وظفه كعنوان لقصيدته وبذلك يكون قد مهد للاستنجاد به وجعله إحدى ركائز المواجهة التي يحتاجها كل عربي لم يتنصل من غمد ماضيه ، ولم يتنكر لتراثه الأصيل الذي سيبقى يمثل رافد الأمة الذي اتكأ عليه الشاعر قبل أن يفتح لنا أبواب نص يعج بالصور والجراحات التي راح يسردها متسلسلة ..
ومن هنا ..ومن كوة العنوان نستطيع أن نطل على أصالته (أي الشاعر) ،وإصراره أمام سيل الحداثة الجارف الذي لم يستطع أن يزعزع ثباته رغم ما استجد من أحداث كان قادرا على مواكبتها بسلاح عصره ..لكن شمس الأصالة كانت الحاضرة كوشاح ربما يكون قد أثقل كاهل النص من منظور المحدثين ..لكنه أذاب الكثير من جليد التكتم ليبدأ في فتح دفاتر مأساته ..بل مأساتنا جميعا ..وهو يوقع بحرفه المتقد هذه القصيدة المثقلة ليتركها للأجيال حتى تفك شفراتها..
وقبل أن يبدأ الشاعر سرد الوقائع كان يعلم تماما بأنه لا شيء يمنح الأمة هويتها وكيانها غير التراث بعد تنكر بنيها ..وغفوتهم بين وسائد الخز ،، وأرائك التبر والجمان
ومن الواضح أنه يدرك تماما بأن المأساة عندما تتشكل ملامحها في أي نص من النصوص يجب أن تكون متكئة على التاريخ ..لأن المتلقي يكون دائما على استعداد لقبول ما يكون قد حدث فعلا دون تزييف أو مراء أو مبالغة ..لهذا نلاحظ أنه قد استبدل المأساة بالقناع ..ولقوة تمسكه بالأصالة قد اختار قناعين من التاريخ مبتعدا بذلك عن الأسطورة ..وما حاجته للأسطورة ما دام يخلّد جرحا استعصى على البرء ..ذلك الجرح الذي لا يزال نازفا رغم تعاقب الشهور والسنين ..
وهكذا ندرك أن عودة الشاعر المعاصر إلى تراثه الأصيل ليست إلا استنجادا بنبع الرواء الحقيقي ..مهد الطفولة البكر ..والخطوة الأولى التي تركت أثر العربي الأصيل واضحا على أرض حرة غراء ..كانت وستبقى – بإذن الله - مهد الاباء..حيث الفطرة والبراءة ..والخطى التي تمشي على سجيتها وهي تنعم بالأمن والأمان ..الذي كم نحن بأمس الحاجة له اليوم وغدا ..
وهذا ما يعزز زيادة اهتمام الشاعر العربي بتراثه، ذلك الاهتمام الذي تزامن مع بروز الخطر الاستعماري..
إذن فتعلق الشاعر بتراثه هو في سبيل البحث عما يوطد الإحساس القوي بالشخصية القومية لأمته ..حيث يستعير الشاعر الأصوات التراثية ويتخذها أقنعة يتقمصها في مواجهة القهر السياسي والاجتماعي المفروض عليه.. ولقد وجد الشاعر العربي في التراث معينا ما نضب من الشخصيات الثائرة التي تحمل كل مقومات الإدانة لقوى القهر والتسلط وخاصة تلك الأصوات التراثية التي عانت من القهر ،والطغيان متمردة على السلطة في عصرها مثل عنترة بن شداد لأن سريان التراث في العروق كثيرا ما يمنح الأمة هويتها وكيانها
ومن الواضح أن الوجع قد بلغ ذروته بالشاعر لحظة كتابة هذا النص لينساب النزف عفويا وهو يحكي دون تكلف ..دون عناء وكأنه يزفر شكواه لتنساب في طلاقة حتى يشهقها المتلقي مؤيدا كل كلمة بعبارة ..وكل عبارة بواقعة أكبر من أن تسيجها الكلمات ، وتحاصرها الحروف لأنها منقوشة بالذاكرتين ..ذاكرة الشاعر وذاكرة المتلقي معا ليتوحدا توحد صوتي الماضي والحاضر وهما يستقيمان بناصية النص مشكلان لوحة العنوان
''عنترة يعيد الشرعية ''
ومن هنا يبدو القناع في عفويته - دون أدنى تكلف أو تحضير مسبق من الشاعر- شكلا وتعبيرا لتنسكب اللغة رقراقة مُطهّمة بعبق الرمز الدلالي لأن توظيف التراث من شأنه أن يسمو بالقصيدة أفقا لتنفلت من حيز التعبير المباشر إلى أفق الإيحاء ، ليبدو لنا التراث بمثابة النابض الذي يبث الروح بصدر الأمة من جديد ،و يحرك جسدها الموهون ليبعثه من سبات قسري
إذ يغوص الشاعر في مجاهيل تلك الفترة فعلا وهو يتزود بالتراث العربي الأصيل دون التخلي عن ثقافته المعاصرة ..معتمدا على ربط الماضي بالحاضر بخيط رفيع لا تراه العين المجردة ..وكأنه يرطب هجير اليوم بظلال الأمس..
وبدءا من مطلع النص نلاحظ حالة التماهي الواضحة بين الـ"أنا" والقناع أي بين الشاعر وعنترة ..فاستحضار عنترة بن شداد كقناع أولي تركه الشاعر على عتبة المدخل مفتتحا به النص كعنوان ..موثقا به تجربته الشخصية ليلبس قناع والدته ويتحدث بصوت الأم ..(زبيبة والدة عنترة) عندما كانت تعاني ما يعانيه ابنها من قهر واضطهاد ؛محققا بذلك علاقة باطنية، تندرج تحولاتها في علاقة الـ"أنا" بالذات الجمعية أي علاقة الشاعر بوطنه العراق ..ثم علاقته بعروبته وهو يبحر مسافرا بين جراح الأمة راصدا مظاهر القمع والتنكيل ؛ تلك المظاهر التي تتجرعها الأنا متخلية عن ذاتها المستقلة لتنصهر داخل القناع ،متقمصة شخص صاحبه ..وذلك ما يحتاجه العقل المعرفي من رصد لحقائق وطّـدت علاقة النص بالمدلول الرمزي لتزيد من طاقاته الإيحائية ،والتأثيرية في المتلقي نظرا لأهمية التراث ..وقيمة حضوره في وجدان الأمة ..
وهكذا يبدأ الشاعر حديثه على لسان الأم فهو يتحدث بلسان زبيبة والدة عنترة ..والدليل على ذلك تقنعه باسم عنترة أولا ..ليتركه كدثار أو كمحمية لنصه ،ثم يتقنّع بذلك الإسم المضمر الذي صرح به إسم عنترة لندرك بأنه يتكلم على لسان أم اتخذها رمزا للعروبة الممزقة في عقر دارها ..ولم تكن إلا والدة عنترة التي كانت تبحث عن شرعية نعلم تفاصيلها جميعا ..
فالشاعر هنا يضع التراث كحصن منيع تواجه به الأمة جل المخاطر الخارجية التي تهدد الكيان القومي ..ومن الملاحظ أن الشاعر العربي قد ازداد اهتمامه بالتراث تزامنا مع ما يهدده من مخاطر داخلية وخارجية ..
كما يمكننا الملاحظة بأن الشاعر العربي قد صار يهرب من واقعه مستنجدا ببعض تراثه حيث الأمان المستتب الذي صارت تنشده الأنا الممزقة بين سيفين ..سيف اليمنى التي تغتال يسراها على الملأ ..وسيف الخيانة الذي يمتد من خلف الحدود ليندس بيننا دون أن ننتبه لفرقتنا ،وتمزقنا بين الصراعين ..الأهلي والطائفي
يقول الشاعر- متقنّعا – على لسان أم عنترة ( المغلوبة على أمرها..الباحثة عن شرعية لم يُعِدها إليها سوى عنترة بالزند والزناد )
نم يا صغيري لا تذع أثرا *** الدرب أسرج بالخطى خطرا
فهي تطلب منه أن ينام في سكينة وهدوء بين أحضانها حتى لا يذاع لهما أثرٌ
ونلاحظ أن الشاعر قد استعمل كلمة يذيع ( في غير حقلها الدلالي) بدلا من كلمة يترك
فنحن نعلم أن الأثر لا يذاع ..لكن الشاعر هنا يريد أن يخبرنا بأن تلك الأم وصغيرها قد لبسا معا ثوب السرى ..فهما يسيران ليلا ولا يمكن أن يهتدي لهما من يلاحقهما إلا إذا بكى الطفل ..وهكذا يتحول صوت الصغير إلى مذيع للأثر
يواصل الشاعر حديثه على لسان قناعه في الشطر الثاني من البيت :..
بأن ذلك الدرب رغم ظلمائه تلك الظلمة التي شكلت لهما بعض الأمان قد يوقد خطرَها وقعُ الخطى ليـُكتشف أمرهما
وهنا قمة التصوير فخطى الهاربين بالنسبة لمن يقتفي أثرهما سوف تكون له كسراج يتتبعه ليفضح أمرهما مهما تسترا
وبالتالي فإن من يتبعهما لن يتعب في تداركهما حيثما مضيا
ويبقى دور الأم فاعلا كما هو الحال في التراث الشعبي الذي يستحضره الشاعر هنا بقوة ذلك الدور الذي يساند البطل في سرائه ..وضرائه
نم يا صغيري ضم ضحكتنا *** خوفا تصيخ ذئابهم بشرا
نم يا صغيري ضم ضحكتنا تلك الضحكة التي لا تريد الأم أن تقطفها من بين شفتي ابنها ، ولا تريد أن تحرمه لذتها اللحظية وهو ينعم بحضنها لكنها تريدها أن تبقى بينهما حتى لا تعلو صوتا ربما يتحول إلى ناقوس الخطر الذي قد يدق في زمن الغدر والنكران أمام ذئاب تترصد خطوات البشر لتفتك بهم في أي لحظة ..
قد توقد الدمعات ليلتنا *** خلِّ العيون تكبل المطرا
وما دامت ليلتهما مظلمة ..داجية فلا شيء أمامهما قد ينيرها سوى تلك الدموع التي تلألأت كالأقمار في عمق الدجى ..فدع العيون الساهرات تطوق المطر لتستقي منه انهمارها حتى يظل سراجهما منيرا ولا ينطفئ في أي لحظة ..فإن نامت تلك العيون أو غفيت أكيد ستكون النهاية بالمرصاد
جفت ضلوعي وانطفا لبني *** فارضع أجاج البحر والسفرا
وكأني بهذ البيت يتحدث عن الحال اليوم ..وكأني بالشاعر قد رأى ملامح المستقبل منذ أمد بعيد (فقلب المؤمن دليله)
إذ تخاطب الأم صغيرها في حنو وأسى لتخبره بأن ضلوعها قد جفت أي أن التعب قد أضناها ..بعدما نال منها الهزال والسقم ولم تعد تستطيع أن تمده بقوت يومه الذي كان يستجديه من صدر جف وانطفأ - وهي كناية على كل الأراضي العربية المستعمرة -فليرضع أجاج البحر ..فما أوجعها من صورة أن ينكبَّ طفلٌ على ماء البحر المالح ليروي منه ظمأ السنين بين أحضان ذلك السفر الذي لبساه ثوبا للهروب من أعين الطغاة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السفر قطعة من العذاب)
فماذا لو كان ذلك السفر ببحر أجاج لا يلوح منه سوى هدير الموج ..
وكأن يقين الشاعر من بشاعة الغد قد صور له تشرد أطفال سوريا اليوم وهم يرضعون من بحر أجاج بليلة هوجاء لا شمس فيها ولا قمر ليبتلعهم العباب تباعا
مرّالطريقِ الآن يفطمنا *** هاك اشرب الصبرَ الذي انتحرا
ويأتي الفطام من صدر الأم ..صدر الأرض .. ..ذلك الفطام الذي يفرضه الطريق المر ..الذي سلكاه ليودعا حضن الوطن بفطام قسري
ورغم ذلك فهي تحاول أن تبث بين جوانحه بعض الصبر عله يكون سلواه غير أن ذلك الصبر قد انتحر قبل أن يصله ليظل ملوعا مثلها
فيالها من صورة موجعة ..ومشهد فاق التصور وكأني بالشاعر يرسم بسهم حاد على أرض هشة دون أن يتكبد أي عناء لتستقيم رسوماته عفوية كلآلىء ثمينة تنزلق من صدر محارة حبلى قد أخطأها الغواص
النص غني جدا وزاخر بمحطات وتفاصيل أكبر من أن أرصدها وأنا أحاول أن أوجز قدر المستطاع ،وأظن أن القارئ قد يشركني الرأي إذا قلت بأن ما يجلب الانتباه بين هذه الأبيات هو ملكة الشاعر الفنية العالية التي تجلت في صور خصبة ،كتصاوير فتية زادت النص متانة وسبكا .. مع قوة التقنيع حيث تماهى الشاعر مع شخصيتيه المختارتين بإحكام ثم ما لبث أن انفلت من بين أيديهما ليفصح عن شخصه موقعا جرحه الذاتي الذي حاول أن يختزل فيه جراحات أمته متوازياً مع القناع منفلتا من سياق التماهي باقتدار وفنية مميزة
غير أن الجرح العربي إذا كان هنا هو القطب الموضوعي للنص فإنه لا وجود له بدون صوت الشاعر الصارخ بين المفردة والأخرى وهو يعد الفجائع على أحجار الحقب
************************
بعض ما استوقغتي بهذا النص المتميز فعلا .. وأرجو أن يتسع له صدر صاحبه ..فنحن كأصحاب رسالة نكمل بعضنا بعضا ..وسنبقى نحبو على عتبات المعرفة التي نطلبها حتى من أبنائنا .. ولا ندعيها
في عبوةِ الغدرِ التي قـُتِلوا *** يتعانقون ليصرعوا القـَدَرا
القدر هو القضاءُ الذي يَقضي به الله على عباده.. وهو أمر الله الذي لا مرد له ..فهو يصرعنا إي نعم ..ولكن لا قدرة لنا على صرعه ..
مجمل القول أن النص كبير وكبير جدا وهو يرصد وقائع وأحداث تناثرت على مر السنين وتركت نزفها نهرا جارفا ما أوقفته سدود ..وما سيجته حدود ..ليبقى وحده في علاه من له مفاتيح الفرج التي صرنا نتطلع إليها بعيني الصبر والرضا
رد: قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
قصيدة جميلة محكمة البناء من شاعر متمرس وقراءة متأنية من شاعرة
محترفة أستطاعت أن توظف أدواتها النقدية ببراعة .
ومهما يكن فإن الشرعية التي يعيدها عنترة لاتكمن في شخص بل تكمن
في انتفاضة أمة وشعب .فإن كان عنترة قد استعاد مجد قبيلة بعد أن ألغى
مقولة العبد لا يصلح للكر وإنما يصلح للحلاب والصر .وبعد الكر استطاع أن يجلب
الحرية لشخصه ولقومه . شكرا لك سيدتي وألف شكر للأستاذ شاكر القزويني
تحية تليق ودمت في رعاية الله وحفظه.
التوقيع
لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه
رد: قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة تواتيت نصرالدين
قصيدة جميلة محكمة البناء من شاعر متمرس وقراءة متأنية من شاعرة
محترفة أستطاعت أن توظف أدواتها النقدية ببراعة .
ومهما يكن فإن الشرعية التي يعيدها عنترة لاتكمن في شخص بل تكمن
في انتفاضة أمة وشعب .فإن كان عنترة قد استعاد مجد قبيلة بعد أن ألغى
مقولة العبد لا يصلح للكر وإنما يصلح للحلاب والصر .وبعد الكر استطاع أن يجلب
الحرية لشخصه ولقومه . شكرا لك سيدتي وألف شكر للأستاذ شاكر القزويني
تحية تليق ودمت في رعاية الله وحفظه.
فعلا أخي الكريم هي قصيدة متميزة فعلا ..
ولقد اختصرت المرور بمحطاتها المشعة والتي يلزمها صفحات وصفحات لرصد كل ما اختزلته أبياتها المثقلة
نسأله تعالى أن تعود تلك الشرعية التي مازالت أمتنا العربية تتطلع إليها من أفق غائم
رد: قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
الله
ما أنبلها من قصيدة فريدة خريدة
وما أجمله من تعمق واستقراء باذخ يليق
شرح واف واحترافية مذهلة لا تخفى عليكم أديبتنا القديرة
حفظكم المولى ورعاكم
وللشاعر الأستاذ القزويني الكريم من هنا ألف تحية وتوقير
حفظكما الله
تقديري والاحترام
رد: قراءة نقدية في قصيدة "عنترة يعيد الشرعية" للشاعر "شاكر القزويني"
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ألبير ذبيان
الله
ما أنبلها من قصيدة فريدة خريدة
وما أجمله من تعمق واستقراء باذخ يليق
شرح واف واحترافية مذهلة لا تخفى عليكم أديبتنا القديرة
حفظكم المولى ورعاكم
وللشاعر الأستاذ القزويني الكريم من هنا ألف تحية وتوقير
حفظكما الله
تقديري والاحترام
نعم أخي الكريم ألبير ذبيان..
هي قصيدة متميزة فعلا تمنيت لو سمح الوقت بالغوص
أكثر بين ثنايا بحار زاخرة عجّت بها كل أبياتها