لصّ يدخل بيتاً لينهب… فيصادف جدّةً تظنه حفيدها.
فلا يمدّ يده إلى شيء، بل تجلس هي لتطعمه:
كنت أراقب ذلك البيت ثلاثة أسابيع كاملة.
أعلم أنّها تعيش وحيدة، عجوزاً نادراً ما تبرح بيتها.
لمحتها مرّة أو مرّتين من خلال النافذة، تتحرّك ببطء في عتمة الصالون.
قلت في نفسي: إنّها الغنيمة المثلى.
في تلك الليلة فتحت نافذة المطبخ بصمت.
لم تعد يداي ترتجفان كما كانتا في البدايات؛ فقد صارت لي في هذا “العمل” سنتان، أضحتا كفيلتين بتجويد الصنعة.
دخلت من غير أن أوقد ضوءاً، تاركاً لعينيّ أن تألفا الظلام.
كانت الخطة يسيرة: أجد مالاً أو حُليّاً أو ما يساوي شيئاً… ثم أهرب.
غير أنّ صوتاً باغتني:
— كارليتوس؟ أأنت هنا يا ولدي؟
تسمّرت في مكاني.
أضاء الصالون، فإذا هي جالسة في مقعد قديم، على ركبتيها بطّانية، وعلى وجهها بسمة محفورة بالتجاعيد.
— كنت واثقة أنّك ستجيء… فأنت دائماً تزورني كل جمعة.
كان ينبغي أن أفرّ.
ذلك ما يفعله كل عاقل.
غير أنّ شيئاً في نظرتها… كل ذلك الحنان، كل ذلك التوق… شدّني بقوة إلى الأرض.
— أنا… — تمتمت.
— اقترب، اقترب. ما أطولك! في كل مرة أراك تكون أكبر قامة. هلمّ واجلس، يا بنيّ.
اقتربت كأنّني مسلوب الإرادة.
أمسكت يدي، وكانت بشرتها رقيقة كأنّ العظام تحتها تلوح.
— لابُدّ أنّك جائع. لم تتعشَّ بعد، أليس كذلك؟
— لا، أنا…
— طبعاً لا. أنتم الشبان لا تأكلون كما ينبغي. سأعدّ لك طعاماً.
نهضت متّكئة بصعوبة على ذراع الكرسي.
مددت يدي أساعدها من غير تفكير.
— شكراً يا قرة عيني… إنّك طيب القلب، تماماً كجدّك.
قادَتني إلى المطبخ، أوقدت المصباح، وشرعت تُخرج ما في الثلّاجة.
أمّا أنا، فبقيت واقفاً بقبعتي السوداء وقفازَيَّ، أشعر أنّني أغبى اللصوص.
— بقي لدي بعض يخنة الغداء. ستعجبك، فقد أضفت إليها تلك الأعشاب التي تحبها.
— سيدتي، أظنّ أن…
— لا تقل “سيدتي”! — قاطعتني ولوّحت بمغرفة خشبية. — أنا جدّتك، كارليتوس. ما بك اليوم؟ أأنت عليل؟
مدّت يدها إلى جبيني.
— لا حرارة… لكنك تبدو متعباً. ألعلّك تُجهد نفسك في دراستك؟
هززت رأسي موافقاً من غير أن أفكّر.
ابتسمت برضا.
— أحسنت. العلم أثمن ما في الدنيا. ستفخر بك أمّك كثيراً.
قدّمت إليّ صحناً من اليخنة.
ضربتني الرائحة دفعةً واحدة: لحم مطبوخ على مهل، بطاطا وجزر.
لم أذكر متى آخر مرّة ذقت فيها وجبة منزلية.
— هيا، كل وهي ساخنة.
خلعت قفّازي ببطء وأمسكت بالملعقة.
أول لقمة… كيف أصفها؟
كأنني أبتلع ذكرى لم أعشها قط.
— لذيذة؟ — سألتني وهي تحتسي الشاي.
— نعم… شهية للغاية.
— الحمد لله. أحياناً أخشى أنّك لا تعود، لأن طبخي لم يرقَ لك بعد الآن. نحن نشيخ… والأذواق تتبدل.
— لا! — قلت سريعاً. — طبخك رائع.
نظرت إلي بعينيها المملوءتين حناناً، وشعرت بشيء يتصدّع في داخلي.
— حدّثني… كيف حال الجامعة؟
نسجت كلاماً من فراغ.
قلت إني في السنة الثالثة، أدرس هذا وذاك… لا أذكر حتى ما قلت.
كانت تُصغي باهتمام، تسألني، وتملأ الفراغ بذكر أصدقاء لم أعرفهم، وحبيبة لم أعهدها، ومستقبل لن أبلغه.
أنهَيت صحني، فملأته لي ثانية.
ثم ثالثة.
أكلت حتى أوجعني بطني، ولم أقدر أن أرفض.
— فنجان قهوة؟
— نعم، شكراً.
وبينما كانت تُعدّه، وقعت عيني على صور معلّقة على الجدار.
شاب في عمري تقريباً، في أطوار عمرية شتى.
لكن في أيّ منها لم يبدُ رجلاً ناضجاً.
— منذ متى لم يأتِ كارليتوس؟ — سألتُ بغير قصد.
سكتت برهة.
خفت أن تكون قد أدركت الخديعة.
— منذ ثلاث سنين، — قالت أخيراً بصوت حالم. — الشهر القادم تصير ثلاثاً كاملة.
— آسف…
— حادث دراجة نارية. كان شاباً مفعماً بالحياة… — مسحت دمعة. — لكنك هنا الآن. وهذا يكفيني.
قدّمت لي فنجان القهوة.
جلسنا صامتَين، صمتاً دافئاً كأننا نعرف بعضنا منذ الأزل.
— سيّد…
— جدة، — صحّحت.
ازدردت ريقي.
— جدة… عليّ أن أنصرف.
— بهذه السرعة؟ ستعود الجمعة المقبلة، أليس كذلك؟
كان ينبغي أن أقول: لا.
أن أغادر ولا أعود.
— نعم، سأعود.
ابتسمت، فاخترقني ابتسامها كطعنة.
رافقتني حتى الباب.
— انتبه لنفسك يا بنيّ. البرد قارس، ارتدِ معطفاً.
— حاضر، جدتي.
عانقتني.
كانت صغيرة لا تصل إلى صدري.
وعبقها مزيج من صابون الخزامى ورائحة اليخنة.
خرجت.
كانت النافذة التي اقتحمتها ما تزال مفتوحة.
أغلقتها من الخارج قبل أن أغادر.
في تلك الليلة نمت في كوخي الحقير كما أفعل دوماً،
لكن للمرة الأولى منذ أعوام… لم أرَ كابوساً.
وفي الجمعة التالية عدت.
طرقت الباب.
— كارليتوس؟ — نادت من الداخل.
— نعم، جدتي. أنا هنا.
وهذه المرّة… لم يكن القول كذباً خالصاً.♠️